فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ألا ترى أن الجمل أذا أصابه ذلك هام على وجهه وذهب؟ وقال ابن عباس وسفيان: الهيم: الرمال التي لا تروى من الماء، وتقدم الخلاف في مفرده، أهو الهيام بفتح الهاء، أم بالضم؟ والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي كالمهل، فإذا ملأوا منه البطون، سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاهم، فيشربونه شرب الهيم، قاله الزمخشري.
وقال أيضًا: فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان، فكان عطفًا للشيء على نفسه؟ قلت: ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك، كما تشرب الهيم الماء، أمر عجيب أيضًا؛ فكانتا صفتين مختلفتين. انتهى.
والفاء تقتضي التعقيب في الشربين، وأنهم أولًا لما عطشوا شربوا من الحميم ظنًا أنه يسكن عطشهم، فازداد العطش بحرارة الحميم، فشربوا بعده شربًا لا يقع به ريّ أبدًا، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد، اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود الصفة.
والمشروب منه في {فشاربون شرب الهيم} محذوف لفهم المعنى تقديره: فشاربون منه شرب الهيم.
وقرأ الجمهور: {نزلهم} بضم الزاي.
وقرأ ابن محيصن وخارجة، عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس، كلهم عن أبي عمرو: بالسكون، وهو أول ما يأكله الضيف، وفيه تهكم بالكفار، وقال الشاعر:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

{يوم الدين}: أي يوم الجزاء.
{نحن خلقناكم فلولا تصدقون} بالإعادة وتقرون بها، كما أقررتم بالنشأة الأولى، وهي خلقهم.
ثم قال: {فلولا تصدقون} بالإعادة وتقررن بها كما أقررتم، فهو حض على التصديق.
{ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} أو: {فلولا تصدقون به}، ثم حض على التصديق على وجه تقريعهم بسياق الحجج الموجبة للتصديق، وكان كافرًا، قال: ولم أصدق؟ فقيل له: أفرأيت كذا مما الإنسان مفطور على الإقرار به؟ فقال: {أفرأيتم ما تمنون}، وهو المني الذي يخرج من الإنسان، إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة.
وقال الزمخشري: {يخلقونه}: تقدرونه وتصورونه.
انتهى، فحمل الخلق على التقدير والتصوير، لا على الإنشاء.
ويجوز في {أأنتم} أن يكون مبتدأ، وخبره {تخلقونه}، والأولى أن يكون فاعلًا بفعل محذوف، كأنه قال: أتخلقونه؟ فلما حذف الفعل، انفصل الضمير وجاء {أفرأيتم} هنا مصرحًا بمفعولها الأول.
ومجيء جملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني على ما هو المقرر فيها، إذا كانت بمعنى أخبرني.
وجاء بعد أم جملة فقيل: أم منقطعة، وليست المعادلة للهمزة، وذلك في أربعة مواضع هنا، ليكون ذلك على استفهامين، فجواب الأول لا، وجواب الثاني نعم، فتقدر أم على هذا، بل أنحن الخالقون فجوابه نعم.
وقال قوم من النحاة: أم هنا معادلة للهمزة، وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد، إذ لو قال: أم نحن، لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر.
ونظير ذلك جواب من قال: من في الدار؟ زيد في الدار، أو زيد فيها، ولو اقتصر في الجواب على زيد لاكتفى به.
وقرأ الجمهور: {ما تمنون} بضم التاء؛ وابن عباس وأبو السمال: بفتحها.
والجمهور: {قدرنا}، بشد الدال؛ وابن كثير: يخفها، أي قضينا وأثبتنا، أو رتبنا في التقدم والتأخر، فليس موت العالم دفعة واحدة، بل بترتيب لا يتعدى.
ويقال: سبقته على الشيء: أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، والمعنى: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم}: أي نحن قادرون على ذلك، لا تغلبوننا عليه، إن أردنا ذلك.
وقال الطبري: المعنى نحن قادرون، {قدرنا بينكم الموت}، {على أن نبدل أمثالكم}: أي بموت طائفة ونبدلها بطائفة، هكذا قرنًا بعد قرن. انتهى.
فعلى أن نبدل متعلق بقوله: {نحن قدرنا}، وعلى القول الأول متعلق {بمسبوقين}، أي لا نسبق.
{على أن نبدل أمثالكم}، وأمثالكم جمع مثل، {وننشئكم فيما لا تعلمون} من الصفات: أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم، وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم.
وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، قال ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد.
ويجوز أن يكون {أمثالكم} جمع مثل بمعنى الصفة، أي نحن قادرون على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقًا وخلقًا، {وننشئكم} في صفات لا تعلمونها.
{ولقد علمتم النشأة الأولى}: أي علمتم أنه هو الذي أنشأكم، أولًا أنشأنا إنسانًا.
وقيل: نشأة آدم، وأنه خلق من طين، ولا ينكرها أحد من ولده.
{فلولا تذكرون}: حض على التذكير المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة.
وقرأ الجمهور: {تذكرون} بشد الذال؛ وطلحة يخفها وضم الكاف، قالوا: وهذه الآية دالة على استعمال القياس والحض عليه.
انتهى، ولا تدل إلا على قياس الأولى، لا على جميع أنواع القياس.
{أفرأيتم ما تحرثون}: ما تذرونه في الأرض وتبذرونه، {أأنتم تزرعونه}: أي زرعًا يتم وينبت حتى ينتفع به، والحطام: اليابس المتفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به.
{فظلتم تفكهون}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تعجبون.
وقال عكرمة: تلاومون.
وقال الحسن: تندمون.
وقال ابن زيد: تنفجعون، وهذا كله تفسير باللازم.
ومعنى تفكهون: تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه: منبسط النفس غير مكترث بشيء، وتفكه من أخوات تخرج وتحوب.
وقرأ الجمهور: {فظلتم}، بفتح الظاء ولام واحدة؛ وأبو حيوة وأبو بكر في رواية القيكي عنه: بكسرها.
كما قالوا: مست بفتح الميم وكسرها، وحكاها الثوري عن ابن مسعود، وجاءت عن الأعمش.
وقرأ عبد الله والجحدري: {فظللتم} على الأصل، بكسر اللام، وقرأ الجحدري أيضًا: بفتحها، والمشهور ظللت بالكسر.
وقرأ الجمهور: {تفكهون}؛ وأبو حرام: بالنون بدل الهاء.
قال ابن خالويه: تفكه: تعجب، وتفكن: تندم.
{إنا لمغرمون}، قبله محذوف: أي يقولون.
وقرأ الجمهور: إنا؛ والأعمش والجحدري وأبو بكر: أئنا بهمزتين، {لمغرمون}: أي معذبون من الغرام، وهو أشد العذاب، قال:
إن يعذب يكن غرامًا وإن ** يعط جزيلًا فإنه لا يبالي

أو لمحملون الغرم في النفقة، إذ ذهب عنا غرم الرجل وأغرمته.
{بل نحن محرومون}: محدودون، لاحظ لنا في الخير.
{الماء الذي تشربون}: هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذاب.
ألا ترى مقابله، وهو الأجاج؟ ودخلت اللام في {لجعلناه حطامًا}، وسقطت في قوله: {جعلناه أجاجًا}، وكلاهما فصيح.
وطول الزمخشري في مسوغ ذلك، وملخصه: أن الحرف إذا كان في مكان، وعرف واشتهر في ذلك المكان، جاز حذفه لشهرة أمره.
فإن اللام علم لارتباط الجملة الثانية بالأولى، فجاز حذفه استغناء بمعرفة السامع.
وذكر في كلامه أن الثاني امتنع لامتناع الأول، وليس كما ذكر، إنما هذا قول ضعفاء المعربين.
والذي ذكره سيبويه: أنها حرف لما كان سيقع لوقوع الأول.
ويفسد قول أولئك الضعفاء قولهم: لو كان إنسانًا لكان حيوانًا، فالحيوانية لا تمتنع لامتناع الإنسانية.
ثم قال: ويجوز أن يقال: إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، وأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعًا للمطعوم، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
والظاهر أن {شجرتها}، المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار.
وقيل: المراد بالشجرة نفس النار، كأنه يقول: نوعها أو جنسها، فاستعار الشجرة لذلك، وهذا قول متكلف.
{نحن جعلناها تذكرة}: أي لنار جهنم، {ومتاعًا للمقوين}: أي النازلين الأرض القوا، وهي القفر.
وقيل: للمسافرين، وهو قريب مما قبله؛ وقول ابن زيد: الجائعين، ضعيف جدًا.
وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم، ثم أتبعه بفائدتها في الدنيا.
وهذه الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها، من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب.
والنار من أعظم الدلائل على البعث، وفيها انتقال من شيء إلى شيء، وإحداث شيء من شيء، ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون.
ووصف تعالى نفسه بالعظيم، إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} أي تقذفونَ في الأرحامِ من النطفِ وقرئ بفتحِ التاءِ من مَنَى النطفةَ بمعنى أمنَاها {ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي تقدرونَهُ وتصورونَهُ بشرًا سويًا {أَم نَحْنُ الخالقون} له من غيرِ دخلِ شيءٍ فيه، وأم قيل: منقطعةٌ لأن ما بعدها جملةٌ فالمعنى بل أنحنُ الخالقونَ على أنَّ الاستفهامَ للتقريرِ وقيل: متصلة ومجىءُ الخالقونَ بعد نحن بطريقِ التأكيد لا بطريقِ الخبريةِ أصالةً {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي قسمنَاهُ عليكم ووقتنا موتَ كلِّ أحدٍ بوقتٍ معينٍ حسبما تقتضيهِ مشيئتنا المبنيةُ على الحكمِ البالغةِ وقرئ {قدَرْنا} مخففًا {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي إنا قادرونَ {على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} لا يغلبنا أحدٌ على أن نُذهبكم ونأتَي مكانَكم بأشباهِكم من الخلقِ {وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الخلقِ والأطوارِ ولا تعهدون بمثلها قال الحسنُ رحمه الله أي نجعلكم قردةً وخنازيرَ وقيل: المَعْنى وننشئكم في البعثِ على غيرِ صوركم في الدُّنيا فيمن هذا شأنُه كيف يعجزُ عن إعادتِكم وقيلَ: المعنى وما يسبقنا أحدٌ فيهرب من الموت أو بغير وقته وعلى أن نبدل إلخ إما حالٌ من فاعل قدرنا أو علةٌ للتقديرِ وعلى بمعنى اللام وبينهما اعتراضٌ.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} هي خلقُهم من نطفةٍ ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ وقيل: هي فطرةُ آدمَ عليه السلام من الترابِ {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون أنَّ من قدرَ عليها قدر على النشأةِ الأُخرى حتمًا فإنه أقلُّ صنعًا لحصولِ الموادِّ وتخصيصِ الأجزاءِ وسبقِ المثالِ وفيه دليلٌ على صحةِ القياسِ وقرئ {فَلْولاَ تذكُرُون} من الئلاثيِّ وفي الخبرِ عجبًا كلَّ العجبِ للمكذبِ بالنشأةِ الْاخرةِ وهو يرى النشأةَ الأولى وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرةِ وهو يسعى لدار الغرور.